شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

للزم إمكان النقض بالقرعة أو الاستخارة ، بل يراد بذلك أنّه لا نقض في حالة الشكّ وهي محفوظة في المقام.

قد يقال : إنّنا إذا سلّمنا بكون العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع أي بالفرد غاية الأمر كون هذا العلم مشوبا بالشكّ ، فإنّه حينئذ سوف يكون رفع اليد عن الحالة السابقة في كلّ فرد من الإناءات يصدق عليه عنوان نقض اليقين باليقين ؛ لأنّ كلّ فرد يحتمل أن يكون هو المعلوم بالإجمال ، فيحتمل أن يكون رفع اليد عن الطهارة السابقة فيه رفعا باليقين لا بالشكّ ، ودليل الاستصحاب ينهى عن نقض اليقين بالشكّ ، أي إذا كان الشكّ هو الذي استندنا إليه بالنقض فيكون هناك حرمة ، وأمّا إذا لم يكن المستند هو الشكّ فلا حرمة سواء كان هناك شكّ أم لا ، وهنا نستند في النقض إلى اليقين المجتمع مع الشكّ لا إلى الشكّ نفسه ، فلا حرمة ، وبالتالي لا يجري الاستصحاب.

والجواب على ذلك : أنّ هذا يتمّ فيما إذا كانت الباء في كلمة ( بالشكّ ) بمعنى السبب ، فيكون المعنى أنّه لا يجوز نقض اليقين ورفع اليد عن الحالة السابقة المتيقّنة بسبب الشكّ ، إلا أنّ الصحيح أنّها بمعنى المورد والظرف ، أي أنّه في مورد الشكّ وظرفه لا يجوز النقض سواء كان النقض مستندا إلى نفس الشكّ أو إلى اليقين المجتمع معه.

وفي المقام اليقين الإجمالي مشوب بالشكّ فيصدق كون النقض في ظرف الشكّ.

ولو كانت ( الباء ) بمعنى السبب للزم جواز نقض اليقين بالقرعة أو بالاستخارة ؛ لأنّه ليس نقضا لليقين بالشكّ ، وهذا لا يمكن الالتزام به أصلا (١).

الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني :

وقد يقال : إنّ الركن الثاني يستدعي عدم جريان الاستصحاب في الشبهة

__________________

(١) بل إنّ أصل الكلام مغالطة ؛ لأنّ العلم الإجمالي وإن كان عبارة عن العلم المصاحب للشكّ إلا أنّ حقيقته هذه ليست بمعنى التركيب الحقيقي من الجزءين المذكورين ، وإنّما هو تركيب تحليلي ؛ إذ لا يوجد إلا صورة واحدة بالتحليل تنقسم إلى ما ذكر ، وعليه فالمستند إلى هذه الصورة بقسميها لا إلى أحدهما بخصوصه ؛ إذ لا وجود له مستقلّ عن الآخر ، وما ذكر من النقض بالقرعة والاستخارة لا يتمّ ؛ لأنّ الروايات حصرت نقض اليقين باليقين فقط فلا يشملهما الجواز كما لا يشملهما التحريم.

٢٢١

الحكميّة ، كما إذا شكّ في بقاء نجاسة الماء أو حرمة المقاربة بعد زوال التغيّر أو النقاء من الدم ؛ وذلك لأنّ النجاسة والحرمة وكلّ حكم شرعيّ ليس له وجود وثبوت إلا بالجعل ، والجعل آني دفعي ، فكلّ المجعول يثبت في عالم الجعل في آن واحد من دون أن يكون البعض منه بقاء للبعض الآخر ومترتّبا عليه زمانا.

فنجاسة الماء المتغيّر بتمام حصصها وحرمة مقاربة المرأة بتمام حصصها متقارنة زمانا في عالم الجعل ، وعليه فلا شكّ في البقاء بل ولا يقين بحدوث المشكوك أصلا ، بل المتيقّن حصّة من الجعل والمشكوك حصّة أخرى منه ، فلا يجري استصحاب النجاسة أو الحرمة.

قد يقال : إنّ الاستصحاب لا يمكن جريانه في الشبهات الحكميّة بناء على أخذ ركنيّة الشكّ سواء كانت بعنوان الشكّ بالبقاء أم كانت بعنوان الشكّ بما تعلّق به اليقين.

وتوضيح ذلك : أنّ الشكّ في الشبهات الحكميّة يعني الشكّ في الحكم ، والشكّ في الحكم إن كان مباشرة وبلا توسّط الشكّ بالموضوع أو بقيوده فهذا يعني الشكّ في النسخ ، والذي يجري فيه استصحاب عدم النسخ ، إلا أنّ موارد هذا النحو من الشكّ قليلة جدّا ونادرة.

فلا بدّ أن يكون الشكّ في الحكم ناشئا من الشكّ في الموضوع بمعنى أنّ هناك بعض القيود والخصوصيّات التي يشكّ في دخالتها كانت موجودة ثمّ ارتفعت ، ولذلك يشكّ في الموضوع وبالتالي يشكّ في الحكم.

كما إذا علمنا بنجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجس ثمّ زالت هذه الأوصاف من نفسها من دون تطهير بالماء ، فهنا سوف نشكّ في أنّ هذا الماء الذي زال التغيّر عنه هل هو نجس أم طاهر؟ فهذا شكّ في الحكم.

وكما إذا علمنا بحرمة مقاربة المرأة الحائض أثناء نزول الدم ، إلا أنّه بعد انقطاع الدم عنها وقبل اغتسالها سوف نشكّ في أنّه يجوز مقاربتها أم لا؟ فهذا شكّ في الحكم أيضا.

فهل يجري استصحاب الحكم السابق أي استصحاب بقاء نجاسة الماء حتّى بعد زوال التغيّر من نفسه؟ وهل يجري استصحاب بقاء حرمة وطء المرأة حتّى بعد انقطاع الدم عنها وقبل اغتسالها؟

٢٢٢

قد يقال : إنّه لا يجري ؛ وذلك لاختلال الركن الثاني.

وبيانه : أنّ الأحكام الشرعيّة عالمها الجعل والتشريع ؛ لأنّها اعتبارات شرعيّة تصدر من الشارع على موضوعها المفترض والمقدر الوجود ، وهذا يعني أنّ الحكم بكلّ حصصه موجود في عالم الجعل ، ولا يوجد تدرّج فيها ، بمعنى أنّه يوجد في آن واحد بكلّ حصصه دفعة واحدة ، وليس هناك ترتّب في الزمان بين بعض هذه الحصص مع البعض الآخر.

فنجاسة الماء المتغيّر بتمام حصصها ( أي الماء المتغيّر فعلا والماء الذي زال عنه التغيّر من نفسه بعد أن كان متغيّرا ) وحرمة مقاربة المرأة الحائض بتمام حصصها ( أي المرأة التي يسيل منها الدم والتي انقطع عنها الدم قبل طهرها واغتسالها ) ، وحينئذ فإمّا أن نعلم بهذا الحكم الموجود في عالم الجعل فلا يكون لدينا شكّ ، وإمّا ألاّ نعلم به فلا يقين ، وإمّا أن نعلم ببعض حصصه دون البعض الآخر ، فيكون لدينا يقين بالبعض الذي علم به ولا شكّ فيه وجهل بالبعض الآخر ولا علم فيه.

وفي مقامنا نعلم ببعض الحصص ونشكّ بالبعض الآخر ، وحيث إنّه لا ارتباط ولا ترتّب لبعض الحصص على بعضها الآخر في عالم الجعل ، فما يكون معلوما ليس مشكوكا وما يكون مشكوكا ليس معلوما ؛ لأنّ المتيقّن حصّة والمشكوك حصّة أخرى لا ارتباط لها بالحصّة الأولى في عالم الجعل ، لأنّ الحصص في عالم الجعل كلّها متقارنة ودفعيّة.

نعم ، في عالم المجعول يوجد ترتّب في الزمان بين الحصص ؛ لأنّ الماء يكون غير متغيّر ثمّ يتغيّر ثمّ يزول التغيّر من نفسه ، إلا أنّ الوجود الخارجي للحصص ليس هو الموضوع للحكم ، وإنّما الموضوع له هو ما يكون في عالم الجعل وهو غير مترتّب ، بل دفعي.

وعليه فلا يجري الاستصحاب لاختلال الركن الثاني ؛ إذ لا علاقة ولا ارتباط للشكّ باليقين أو للمشكوك بالمتيقّن.

وهذا الكلام مبني على ملاحظة عالم الجعل فقط ، فإنّ حصص المجعول فيه متعاصرة ، بينما ينبغي ملاحظة عالم المجعول ، فإنّ النجاسة بما هي صفة للماء المتغيّر الخارجي لها حدوث وبقاء ، وكذلك حرمة المقاربة بما هي صفة للمرأة الحائض

٢٢٣

الخارجيّة ، فيتمّ بملاحظة هذا العالم اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ويجري الاستصحاب.

والجواب : أنّ هذا الكلام يتمّ فيما إذا انحصر الحكم في عالم الجعل والتشريع ، وأمّا إذا قلنا : إنّه يوجد الحكم في عالم المجعول والفعليّة فلا يتمّ هذا الكلام.

والصحيح : أنّ الحكم وإن كان تشريعه في عالم الجعل إلا أنّ وجوده لا ينحصر هناك ، وإلا لأصبحت كلّ الأحكام ذهنيّة ، بل الحكم تابع لموضوعه فإذا ثبت موضوعه في عالم الخارج كان الحكم فعليّا ، وإذا لم يثبت الموضوع في الخارج ظلّ الحكم منصبّا على الموضوع الموجود في عالم التشريع والجعل فقط.

فوجوب الحجّ على المستطيع حكم منصبّ على الاستطاعة في عالم الجعل والتشريع ، إلا أنّه إذا وجد في الخارج إنسان مستطيع فإنّ الحكم ينصبّ عليه فيقال : هذا الإنسان المستطيع يجب عليه الحجّ.

وفي مقامنا نجاسة الماء المتغيّر وحرمة وطء المرأة الحائض يتّصف بهما في الخارج الماء المتغيّر بالفعل والمرأة الحائض بالفعل ، فإذا زال التغيّر عن هذا الماء الموجود فعلا وانقطع الدم عن المرأة الموجودة في الخارج ، سوف يكون الشكّ في نجاسة الماء الذي زال عنه التغيّر والشكّ في حرمة وطء المرأة التي انقطع عنها الدم شكّا في بقاء النجاسة السابقة والحرمة السابقة ؛ لأنّ موضوع الحكم لا يزال موجودا وهو واحد ، غاية الأمر زالت عنه بعض القيود والخصوصيّات والتي كانت هي المنشأ للشكّ في الحكم بقاء وارتفاعا.

وحينئذ يجري الاستصحاب لتماميّة أركانه ، أمّا اليقين بالحدوث فلأنّ هذا الماء كان نجسا عند ما كان متغيّرا ، وهذه المرأة كان يحرم مقاربتها عند ما كان الدم يسيل منها ، ثمّ بعد زوال التغيّر وانقطاع الدم نشكّ في بقاء نجاسة هذا الماء وفي بقاء حرمة وطء هذه المرأة ، فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة ؛ لأنّ الركن الثاني متوفّر وهو الشكّ في البقاء أو كون الشكّ متعلّقا بما تعلّق به اليقين وهو هذا الماء وهذه المرأة.

وسيأتي فيما بعد مزيد توضيح لهذه المسألة عند الحديث عن التفصيل المذكور في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة وعدم جريانه في الشبهات الحكميّة.

* * *

٢٢٤

وحدة القضيّة

المتيقّنة والمشكوكة

٢٢٥
٢٢٦

ج ـ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة

وهذا هو الركن الثالث ، والوجه في ركنيّته أنّه مع تغاير القضيّتين لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، بل في حدوث قضيّة جديدة ، ومن هنا يعلم بأنّ هذا ليس ركنا جديدا مضافا إلى الركن السابق ، بل هو مستنبط منه وتعبير آخر عنه.

وقد طبّق هذا الركن على الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعيّة ، وعلى الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكميّة ، وواجه في كلّ من المجالين بعض المشاكل والصعوبات كما نرى فيما يلي :

الركن الثالث : هو وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

والوجه في ركنيّة هذا الركن هو أنّه إذا لم تكن القضيّة واحدة ، بل كانت القضيّة المتيقّنة مغايرة للقضيّة المشكوكة ، فلا يصدق كون الشكّ شكّا في البقاء أو شكّا في شيء تعلّق به اليقين ، بل يكون شكّا في قضيّة جديدة أي في الحدوث.

فمثلا إذا كنّا على يقين من طهارة الثوب ، فلا بدّ أن يكون الشكّ شكّا في طهارة هذا الثوب أيضا ، وأمّا إذا كان الشكّ شكّا في طهارة الإناء فهذا الشكّ ليس بقاء للمتيقّن السابق وليس متعلّقا به أصلا ، وإنّما هو شكّ في الحدوث ابتداء ، وهو مجرى لأصالة البراءة ونحوها من الأصول المؤمّنة ، وعليه فهذا الركن ليس ركنا مستقلاّ في مقابل الركن الثاني ، بل هو من تفريعاته ولازم له ومستنبط منه ، بل هو نفسه وتعبير آخر عنه.

وهذا الركن يواجه بعض الإشكالات والصعوبات إن من جهة تطبيقه على الشبهات الموضوعيّة أو من جهة تطبيقه على الشبهات الحكميّة ، ولذلك سنتحدّث عن كلّ واحدة منهما لنرى ما هي المشاكل والصعوبات التي تواجه الاستصحاب بناء على هذا الركن؟

٢٢٧

أوّلا : تطبيقه في الشبهات الموضوعية :

جاء في إفادات الشيخ الأنصاري ـ قدّس الله روحه ـ (١) التعبير عن هذا الركن بالصياغة التالية : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع ، إذ مع تبدّل الموضوع لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، فلا يمكنك مثلا أن تستصحب نجاسة الخشب بعد استحالته وصيرورته رمادا ؛ لأنّ موضوع النجاسة المتيقّنة لم يبق.

وهذه الصياغة سبّبت الاستشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المشكوك أصل وجود الشيء بقاء ؛ لأنّ موضوع الوجود الماهيّة ولا بقاء للماهيّة إلا بالوجود ، فمع الشكّ في وجودها بقاء لا يمكن إحراز بقاء الموضوع ، فكيف يجري الاستصحاب؟

البحث الأوّل : في تطبيق هذا الركن في الشبهات الموضوعيّة.

ذكر الشيخ الأنصاري أنّ الركن الثالث عبارة عن إحراز بقاء الموضوع ، فما لم يحرز بقاء الموضوع ـ سواء أحرز عدم بقائه أم احتمل ذلك ـ فلا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه مع تبدّل الموضوع وتغيّره لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، وإنّما شكّ في الحدوث ، وهو شكّ بدوي لا حالة سابقة متيقّنة له.

ومثّل لذلك : بما إذا كنّا على يقين من نجاسة خشبة ، ثمّ بعد احتراقها وصيرورتها رمادا شككنا في نجاستها ، فهذا الشكّ ليس شكّا في بقاء نجاسة الخشبة إذ الخشبة لم تبق ، وإنّما هو شكّ في موضوع جديد وهو نجاسة الرماد ، وهذا شكّ بدوي لا حالة سابقة متيقّنة له ، فلا يجري الاستصحاب لعدم بقاء الموضوع المتيقّن.

وهذه الصياغة تسبّب الاستشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة أيضا.

أمّا الاستشكال في جريانه في الشبهات الموضوعيّة فلأنّنا لو فرضنا ترتّب أثر شرعي على حياة زيد ، كبقاء العلاقة الزوجيّة أو عدم تقسيم تركته ، وكنّا على يقين من حياته فإذا شككنا في بقائه حيّا تعذّر جريان الاستصحاب هنا بناء على أنّ الركن هو بقاء الموضوع ؛ لأنّ الموضوع غير محرز.

__________________

(١) فوائد الأصول ٣ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٢٢٨

والوجه في ذلك : هو أنّ زيدا عبارة عن ماهيّة والماهيّة يعرض عليها الوجود فيقال : ( زيد موجود ) ، فإذا شككنا في وجود زيد فهذا يعني أنّنا نشكّ في ماهيّته ، إذ لا بقاء للماهيّة إلا بالوجود ، فمع الشكّ في بقاء وجودها يعني أنّنا لم نحرز الماهيّة ، إذ لو كانت الماهيّة محرزة فهي موجودة فلا شكّ في بقاء وجودها ، وإذا لم تكن الماهيّة محرزة فهي غير موجودة ، فعند الشكّ في بقاء وجود الماهيّة لا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز بقاء الموضوع أي ( ماهيّة زيد ).

وبتعبير آخر : أنّ ماهيّة زيد معروضة للوجود ولا بقاء لها إلا بالوجود ، كما أنّ أصل حدوثها يكون بالوجود ، وعليه فإذا شككنا في بقاء وجودها فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز الموضوع وهو ( ماهيّة زيد ) ، إذ لو كانت ماهيّته محرزة فهي موجودة فلا شكّ في البقاء فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم توفّر الركن الثاني ، ولو كانت ماهيّته غير محرزة فهذا يعني أنّنا نشكّ في بقاء الموضوع وعدمه ، ومع الشكّ كذلك لا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز بقاء الموضوع.

وكذلك سبّبت الاستشكال أحيانا فيما إذا كان المشكوك من الصفات الثانويّة المتأخّرة عن الوجود كالعدالة ؛ وذلك لأنّ زيدا العادل تارة يشكّ في بقاء عدالته مع العلم ببقائه حيّا ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب العدالة بلا إشكال ؛ لأنّ موضوعها وهو حياة زيد معلوم البقاء ، وأخرى يشكّ في بقاء زيد حيّا ويشكّ أيضا في بقاء عدالته على تقدير حياته ، وفي مثل ذلك كيف يجري استصحاب بقاء العدالة مع أنّ موضوعها غير محرز؟

وكذلك يرد الاستشكال بناء على أخذ بقاء الموضوع في بعض الشبهات الموضوعيّة الأخرى ، وذلك فيما إذا كان الشكّ في بقاء بعض أعراض الموضوع والماهيّة والشيء لا في أصل بقاء وجود الماهيّة والشيء.

فإذا كان لدينا يقين بعدالة زيد ـ والعدالة من الصفات الثانويّة المتأخّرة في وجودها عن وجود الماهيّة والشيء ؛ لأن الشيء يوجد أوّلا ثمّ يتّصف بالعدالة ونحوها ـ ثمّ شككنا في بقاء عدالته ، فهنا صورتان :

الصورة الأولى : أن يشكّ في بقاء عدالة زيد مع إحراز بقاء زيد على قيد الحياة ، فهنا لا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ وذلك لإحراز بقاء الموضوع وهو حياة زيد ،

٢٢٩

فإنّ زيدا الحي هو الذي يتّصف بصفة العدالة أو بعدمها ، وهنا لدينا يقين بأنّ زيدا الحي كان عادلا ثمّ نشكّ في بقاء عدالته فيجري استصحاب بقائها لتماميّة أركان الاستصحاب.

الصورة الثانية : أن يشكّ في بقاء عدالة زيد ويشكّ أيضا في بقاء زيد على قيد الحياة ، فلو كان زيد ميّتا فلا معنى لبقاء عدالته ؛ لأنّها صفة يتّصف بها الحي لا الميّت ، وإن كان زيد حيّا فهو مشكوك العدالة ، أي أنّ الشكّ في بقاء عدالته إنّما هو على تقدير بقاء حياته.

فهنا لا يجري استصحاب بقاء العدالة ؛ وذلك لعدم إحراز بقاء الموضوع وهو حياة زيد ؛ إذ لعلّ زيدا ميّت فلا معنى لعدالته إذ لا موضوع لها ، فكيف يجري استصحاب بقاء العدالة والحال أنّ موضوعها غير محرز؟ مع أنّها صفة متأخّرة عن وجود الموضوع ، أي أنّها تثبت للموضوع والماهيّة الموجودة.

وبتعبير آخر : أنّ صفة العدالة على نحو مفاد ( كان ) الناقصة ، أي أنّها صفة للشيء والماهيّة بعد الفراغ عن ثبوت ووجود الماهيّة ، فإذا كانت الماهيّة مشكوكة وغير محرزة الوجود فسوف يشكّ في بقاء هذه الصفة ، إلا أنّه لا يجري استصحابها ؛ لأنّ موضوعها غير محرز ، إذ كيف يجري استصحاب بقائها على فرض كون الموضوع والماهيّة غير ثابتة؟ مع أنّها عرض يحتاج إلى الموضوع دائما ولا توجد من دونه ، ولذلك لا بدّ من إحراز موضوعها أوّلا ثمّ استصحاب بقائها ثانيا.

وعليه فلا بدّ من جريان استصحاب بقاء زيد حيّا في مرتبة سابقة لكي يتحقّق الموضوع.

وأمّا الاستشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فسيأتي التعرّض له ضمن الإشكال على الصياغة الثانية لهذا الركن.

وهذه الاستشكالات نشأت من الصياغة المذكورة ، وهي لا مبرّر لها. ومن هنا عدل صاحب ( الكفاية ) (١) عنها إلى القول بأنّ المعتبر في الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وهي محفوظة في موارد الاستشكال الآنفة الذكر.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٨٦.

٢٣٠

وأمّا افتراض المستصحب عرضا وافتراض موضوع له واشتراط إحراز بقائه فلا موجب لذلك.

والجواب : أنّ هذه الاستشكالات كما هو واضح نشأت من صياغة الركن الثالث على هذا النحو أي إحراز بقاء الموضوع.

مع أنّ هذه الصياغة لا مبرّر لها لعدم أخذها بعنوانها في لسان الأدلّة ، وإنّما هي متفرّعة عن الركن الثاني أي كون الشكّ في البقاء ، وهذا يكفي فيه افتراض الركن الثالث بنحو آخر.

ومن هنا صاغ المحقّق الخراساني الركن الثالث بنحو آخر وهو وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، فإنّه على أساس هذه الوحدة سوف يكون الشكّ شكّا في البقاء لا في الحدوث ، أو شكّا فيما تعلّق به اليقين لا بشيء آخر مغاير له.

وبناء على هذه الصياغة الثانية لا ترد الإشكالات المذكورة آنفا ؛ لأنّ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة محفوظة ، أمّا الشكّ في نجاسة الرماد فهو شكّ في النجاسة التي كانت متيقّنة سابقا في الخشب ؛ لأنّ الميزان في الوحدة هو الوحدة العرفيّة لا الوحدة بالدقّة العقليّة والفلسفيّة ، والعرف يرى أنّ هذا الرماد هو نفس ذلك الخشب ، غاية الأمر أنّ صورته قد تغيّرت وأمّا المادّة فهي واحدة لكنّها الآن صارت بشكل وصورة أخرى.

وأمّا الشكّ في العدالة بقاء فهو شكّ في أنّ زيدا الذي كان حيّا وعادلا بالأمس مثلا هل لا يزال عادلا أم لا؟ فالمتيقّن والمشكوك واحد وهو عدالة زيد الحي فإنّه سابقا كان متيقّن والآن مشكوك فيجري الاستصحاب.

وأمّا ما ذكره الشيخ من كون المستصحب من الأعراض كالحياة أو العدالة أو النجاسة ، والعرض لا بدّ له من موضوع ومحلّ ليعرض عليه ، فلا بدّ أوّلا من إحراز بقاء المعروض والمحلّ ثمّ إجراء الاستصحاب ، فهذا لا موجب ولا مبرّر له لعدم الدليل على ذلك بهذا العنوان.

ثانيا : تطبيقه في الشبهات الحكميّة :

وعند تطبيق هذا الركن على الاستصحاب في الشبهات الحكميّة نشأت بعض المشاكل أيضا ، إذ لوحظ أنّا حين نأخذ بالصياغة الثانية له التي اختارها صاحب ( الكفاية ) نجد أنّ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة لا يمكن افتراضها في الشبهة

٢٣١

الحكميّة إلا في حالات الشكّ في النسخ بمعنى إلغاء الجعل ؛ ـ أي النسخ بمعناه الحقيقي.

وأمّا حيث لا يحتمل النسخ فلا يمكن أن ينشأ شكّ في نفس القضيّة المتيقّنة ، وإنّما يشكّ في بقاء حكمها حينئذ إذا تغيّرت بعض القيود والخصوصيّات المأخوذة فيها ، وذلك بأحد وجهين :

البحث الثاني : في تطبيق هذا الركن في الشبهات الحكميّة.

ثمّ إنّ هذا الركن بصياغته الثانية التي ذكرها الآخوند تواجه بعض الصعوبات والمشاكل عند تطبيق الاستصحاب في موارد الشبهات الحكمية.

والوجه في ذلك : أنّ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة لا يعقل افتراضها في الشبهات الحكميّة إلا بأن يكون هناك علم بالجعل ثمّ يشكّ في بقاء هذا الجعل ، وهذا يعني الشكّ في النسخ بمعنى إلغاء الجعل حقيقة ، فيجري استصحاب بقاء الجعل أو عدم النسخ ، فهنا الشكّ في بقاء الحكم بنفسه لا في موضوعه أو قيوده أو بعض الخصوصيّات ، وهذا الشكّ يعني الشكّ في أنّ الشارع هل رفع اليد عن هذا الحكم ونسخه أم لا؟

وقد تقدّم سابقا أنّ النسخ بمعناه الحقيقي محال تصويره بحقّ المولى عزّ وجلّ ، فلا بدّ من افتراض الشكّ في الحكم بنحو آخر وهو : أن يكون الشكّ لا بمعنى النسخ ورفع الجعل ابتداء ، وإنّما يشكّ في بقاء الحكم نتيجة تغيّر الموضوع أو بعض الخصوصيّات والقيود المأخوذة في الموضوع ، وحينئذ لا يكون هناك قضيّة واحدة بين المتيقّن والمشكوك ؛ لأنّ المتيقّن هو الحكم على هذا الموضوع بهذه القيود والخصوصيّات ، والمشكوك هو الحكم على الموضوع الذي فقد أو تغيّرت بعض قيوده وخصوصيّاته ، فكيف يجري الاستصحاب والحال هذه؟

وهنا قبل أن نجيب عن هذا الاستشكال لا بدّ من تصوير كيفيّة الشكّ في الحكم ، وهي على نحوين :

أمّا بأن تكون خصوصيّة ما دخيلة يقينا في حدوث الحكم ويشكّ في إناطة بقائه ببقائها فترتفع الخصوصيّة ويشكّ حينئذ في بقاء الحكم ، كالشكّ في نجاسة الماء بعد زوال تغيّره.

٢٣٢

وأمّا بأن تكون خصوصيّة ما مشكوكة الدخل من أوّل الأمر في ثبوت الحكم فيفرض وجودها في القضيّة المتيقّنة ؛ إذ لا يقين بالحكم بدونها ، ثمّ ترتفع فيحصل الشكّ في بقاء الحكم.

وفي كلّ من هذين الوجهين لا وحدة بين القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

النحو الأوّل : أن تكون هناك خصوصيّة دخيلة يقينا في حدوث وثبوت الحكم ولكن يشكّ في كونها دخيلة في بقائه أيضا ، بحيث يكون ارتفاعها فيما بعد سببا للشكّ في بقاء الحكم ؛ لأنّها لو كانت دخيلة بقاء فقد ارتفع الحكم وإن لم تكن دخيلة بقاء فالحكم باق على حاله.

مثاله : نجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة ، فإنّه يعلم أنّ التغيّر دخيل في ثبوت الحكم بالنجاسة على الماء ، ولكن لا يعلم كون التغيّر دخيلا كذلك بقاء ، بحيث لو زال التغيّر فيما بعد من نفسه فهل تبقى النجاسة أو ترتفع؟ فهنا الشكّ في بقاء الحكم نشأ من الشكّ في الخصوصيّات لا من الشكّ في ارتفاع الحكم من نفسه بالنسخ.

النحو الثاني : أن تكون هناك خصوصيّة موجودة ولكن يشكّ في كونها دخيلة في ثبوت الحكم من أوّل الأمر ، فيفرض كونها موجودة في موضوع الحكم وقيوده حدوثا ، ثمّ ترتفع فيما بعد فيشكّ في ارتفاع الحكم للشكّ في كونها دخيلة في ثبوت الحكم حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط.

مثاله : وجوب صلاة الجمعة فإنّه يشكّ من أوّل الأمر في كون وجوبها هل هو الأعمّ من عصر الحضور وعصر الغيبة أو هو مختصّ بعصر الحضور؟ وعلى كلّ حال لا بدّ من فرض وتقدير دخالة عصر الحضور في الموضوع ، إذ هو القدر المتيقّن ، ولكن بعد عصر الحضور سوف يشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة ؛ لأنّ هذه الخصوصيّة لو كانت دخيلة حدوثا وبقاء فقد ارتفعت الآن فلا وجوب وإلا فالوجوب باق على حاله.

وهذان النحوان من الشكّ يشكل جريان الاستصحاب فيهما من أجل الاستشكال في إمكان تطبيق الركن الثالث أي وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وذلك لأنّ موضوع الحكم المتيقّن في المثال الأوّل هو الماء المتغيّر بينما الموضوع المشكوك هو الماء الذي زال عنه التغيّر ، وموضوع الحكم المتيقّن في المثال الثاني هو صلاة الجمعة في

٢٣٣

عصر الحضور بينما الموضوع المشكوك هو صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، وهذا يعني أنّ القضيّة المتيقّنة مغايرة للقضيّة المشكوكة وليست نفسها.

كما أنّا حين نأخذ بالصياغة الأولى لهذا الركن نلاحظ أنّ موضوع الحكم عبارة عن مجموع ما أخذ مفروض الوجود في مقام جعله ، والموضوع بهذا المعنى غير محرز البقاء في الشبهات الحكميّة ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الحكم ينشأ من الشكّ في انحفاظ تمام الخصوصيّات المفروضة الوجود في مقام جعله.

وكذلك يرد الإشكال المذكور على الصياغة الأولى لهذا الركن أي إحراز بقاء الموضوع ؛ وذلك لأنّ الموضوع عبارة عن جميع ما أخذ مفترض الوجود في عالم الجعل ، فكلّ الخصوصيّات والحيثيّات والقيود والشروط المتصوّرة في عالم الجعل كلّها دخيلة في الموضوع ، فلا بدّ من إحرازها ليتحقّق بذلك إحراز بقاء الموضوع ، وهذا يعني أنّ الشكّ في بقاء الموضوع ينشأ من الشكّ في كون هذه الخصوصيّات المفترضة في الموضوع هل هي محفوظة أم لا؟ إذ لو كانت هذه القيود والخصوصيّات كلّها محفوظة فهذا يعني إحراز بقاء الموضوع ، وبالتالي يحرز بقاء الحكم ؛ لأنّه لا شكّ حينئذ ، فلا بدّ من فرض الشكّ في كون هذه الخصوصيّات والقيود وكلّ ما أخذ في عالم الجعل وقدّر وفرض هل هو محفوظ في هذا الموضوع أم لا؟ ولذلك فإنّ الموضوع الذي كنّا على يقين من حدوث الحكم فيه غير الموضوع الذي نشكّ فيه فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز بقاء الموضوع ، وإذا كان هو نفسه فلا يجري الاستصحاب لعدم الشكّ.

ولأجل حلّ المشكلة المذكورة نقدّم مثالا من الأعراض الخارجيّة فنقول :

إنّ الحرارة لها معروض وهو الجسم ، وعلّة وهي النار أو الشمس ، والحرارة تتعدّد بتعدّد الجسم المعروض لها ، فحرارة الخشب غير حرارة الماء ، ولا تتعدّد بتعدّد الأسباب والحيثيّات التعليليّة ، فإذا كانت حرارة الماء مستندة إلى النار حدوثا وإلى الشمس بقاء لا تعتبر حرارتين متغايرتين ، بل هي حرارة واحدة لها حدوث وبقاء.

والتحقيق في الجواب عن الإشكال المذكور أن يقال : إنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة يجري بلا إشكال ؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة أو لأنّ الموضوع لا يزال باقيا.

٢٣٤

وقبل بيان ذلك نتعرّض لتقديم مثال من الأعراض الخارجيّة التكوينيّة ليلقي ضوءا على ما نحن بصدده ، ولذلك نقول : إنّ الحرارة تعرض على الجسم فهي العرض والجسم هو المعروض.

وللحرارة علّة توجدها كالنار أو الشمس أو الكهرباء ، فالنار مثلا علّة للحرارة فهي حيثيّة تعليليّة.

ثمّ إنّ الحرارة تتعدّد وتتكثّر في الخارج بتعدّد الأجسام التي تعرض عليها ، فكلّما وجد جسم في الخارج وتعرّض للنار أو الشمس أو الكهرباء فالحرارة تعرض عليه ، فالتعدّد يكون بلحاظ المعروض ولذلك تكون حرارة الجسم الخشبي مغايرة لحرارة الماء أو الحجر ، مع أنّ العلّة في الجميع قد تكون واحدة كالنار ، وقد تكون متعدّدة كالنار للخشب والشمس للماء.

وهذا يعني أنّ التعدّد في الحرارة لا يكون بلحاظ التعدّد في العلّة والسبب التي هي الحيثيّات التعليليّة ؛ لأنّها قد تتعدّد ولا يكون هناك تعدّد في الحرارة في الخارج ، وقد لا تتعدّد ويحصل التعدّد في الحرارة في الخارج ، فالعمدة أو السبب في حصول التعدّد هو تعدّد المعروض.

ولذلك فإذا كان لدينا ماء فأشعلنا تحته النار فتحدث فيه الحرارة ، ثمّ إذا رفعنا النار من تحته وسلّطنا عليه الشمس أو الكهرباء فالحرارة الموجودة الآن بلحاظ مرحلة البقاء مستندة إلى الشمس أو الكهرباء لا إلى النار ، ولكنّ حرارة الماء واحدة لم تتغيّر ؛ لأنّ المعروض لا يزال ثابتا لم يتغيّر ، وإنّما تغيّرت الحيثيّات التعليليّة وهي لا توجب التعدّد والتغيّر للحرارة.

وعليه فحرارة الماء حدوثا استندت إلى النار ولكنّها استندت إلى الشمس بقاء إلا أنّها حرارة واحدة مستمرّة ، أي لها حالة استمراريّة حدوثا وبقاء لا أنّها انقطعت ثمّ حدثت حرارة أخرى مكانها ، بل الحرارة التي كانت موجودة سابقا لا تزال موجودة لاحقا.

والحاصل : أنّ العرض يتعدّد بلحاظ تعدّد المعروض لا بلحاظ تعدّد العلّة والسبب والحيثيّات التعليليّة.

ونفس الشيء نقوله عن الحكم كالنجاسة مثلا ، فإنّ لها معروضا وهو الجسم

٢٣٥

وعلّة وهي التغيّر بالنسبة إلى نجاسة الماء مثلا ، والضابط في تعدّدها تعدّد معروضها لا تعدّد الحيثيّات التعليليّة.

فالخصوصيّة الزائلة التي سبّب زوالها الشكّ في بقاء الحكم إن كانت على فرض دخالتها بمثابة العلّة والشرط فلا يضرّ زوالها بوحدة الحكم ، ولا تستوجب دخالتها كحيثيّة تعليليّة مباينة الحكم بقاء للحكم حدوثا ، كما هو الحال في الحرارة أيضا ، وإن كانت الخصوصيّة الزائلة مقوّمة لمعروض الحكم كخصوصيّة البوليّة الزائلة عند تحوّل البول بخارا ، فهي توجب التغاير بين الحكم المذكور والحكم الثابت بعد زوالها.

وفي الشبهات الحكميّة نقول : إنّ الحكم يعرض على الموضوع ؛ لأنّ الأحكام وإن كانت اعتباريّة بالحمل الأوّلي وبلحاظ عالم الجعل إلا أنّها موجودات حقيقيّة بالحمل الشائع وبلحاظ عالم المجعول.

فالنجاسة العارضة على الماء المتغيّر مثلا موجودة حقيقة في عالم المجعول والفعليّة ، فهي تعرض على الماء الموجود في الخارج المتغيّر بأوصاف النجاسة ، والماء المتغيّر فعلا هو معروضها ، وعلّتها هي التغيّر.

وعليه فالنجاسة تتعدّد في الخارج بلحاظ تعدّد المعروض أي كلّما وجد ماء تغيّر فهو نجس كالحرارة العارضة على الجسم ، وسببها هو التغيّر كما أنّ سبب الحرارة هو الشمس أو النار ، ولكنّ التغيّر حيثيّة تعليليّة لا تتعدّد النجاسة بسببها ، بل تتعدّد بلحاظ الماء.

وحينئذ نقول : إنّ الخصوصيّة ـ التي كانت موجودة ثمّ ارتفعت فيما بعد ، والذي كان ارتفاعها وزوالها هو السبب في حصول الشكّ في بقاء الحكم ـ إن كانت بمثابة السبب والعلّة والحيثيّة التعليليّة أو الشرط فوجودها ضروري لحدوث الحكم وعروضه على الموضوع ، إلا أنّ زوالها لا يضرّ في بقاء الحكم واستمراره ، ولا يؤثّر زوالها في كون الحكم الحادث مباينا للحكم الباقي ، نظير النار والشمس بالنسبة للحرارة ، فإنّ الحرارة إن كانت حادثة بالنار فلا يضرّ زوال النار وبقاء الحرارة بالشمس ؛ لأنّ النار والشمس حيثيّتان تعليليّتان لا يوجبان التعدّد والمباينة في العرض.

وأمّا إن كانت هذه الخصوصيّة بمثابة المقوّم للمعروض بحيث يكون المعروض ـ

٢٣٦

وجودا وعدما ـ متوقّفا على وجود تلك الحيثيّة وعدمها ، فهنا إذا كانت هذه الحيثيّة موجودة حدوثا فالمعروض موجود فالعرض ثابت له ، فإذا ارتفعت هذه الحيثيّة بقاء فهذا يعني أنّ المعروض مرتفع أيضا فيرتفع العرض ؛ لأنّ العرض لا يثبت من دون معروضه ، من قبيل نجاسة البول فإنّ النجاسة عارضة على الجسم المتّصف بالبوليّة إلا أنّ هذه الحيثيّة مقوّمة لهذا السائل ، بحيث إذا ارتفعت وصار السائل بخارا مثلا يرتفع المعروض أيضا فيرتفع العرض بارتفاع معروضه ، ولذلك فالحكم بالنجاسة الثابت للجسم المتّصف بالبوليّة مغاير ومباين للحكم بالنجاسة للجسم الذي ارتفعت عنه هذه الحيثيّة وصار بخارا ، وهذا ما يسمّى بالحيثيّة التقييديّة.

وعليه فكلّما كانت الخصوصيّة غير المحفوظة من الموضوع أو من القضيّة المتيقّنة حيثيّة تعليليّة فلا ينافي ذلك وحدة الحكم حدوثا وبقاء ، ومعه يجري الاستصحاب.

وكلّما كانت الخصوصيّة مقوّمة للمعروض كان انتفاؤها موجبا لتعذّر جريان الاستصحاب ؛ لأنّ المشكوك حينئذ مباين للمتيقّن.

وعليه : نستنتج قاعدة عامّة كلّيّة مفادها : أنّ الخصوصيّة التي كانت موجودة في الموضوع أو في القضيّة المتيقّنة إن كانت من الحيثيّات التعليليّة ، فارتفاعها لاحقا وبقاء لا يضرّ في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ ارتفاعها لا يوجب تعدّد الحكم كما أنّ وجودها لا يوجب تعدّد الحكم أيضا ، وهذا معناه أنّ الحكم الذي كان متيقّنا سابقا هو نفس الحكم المشكوك بقاء وليس مغايرا له.

فتغيّر وتبدّل الحيثيّة التعليليّة لا يوجب التغيّر والتبدّل في الموضوع أو القضيّة المتيقّنة فيجري الاستصحاب ، وأمّا إن كانت الخصوصيّة المذكورة من الحيثيّات التقييديّة ـ بأن كانت مقوّمة للمعروض بحيث يكون وجودها سببا لوجود المعروض وارتفاعها سببا لارتفاع المعروض ـ فهنا زوال هذه الحيثيّة بقاء يوجب التغيّر والتبدّل في الموضوع أو القضيّة المتيقّنة.

فيكون المعروض المتيقّن الحكم سابقا مغايرا للمعروض اللاحق والذي يشكّ في حكمه بقاء ، ولذلك لا يجري الاستصحاب لعدم إحراز وحدة الموضوع ، أو لأنّ هذه الحيثيّة توجب كون المتيقّن غير المشكوك فلم تتّحد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

٢٣٧

ومن هنا يبرز السؤال التالي :

كيف نستطيع أن نميّز بين الحيثيّة التعليليّة والحيثيّة التقييديّة المقوّمة لمعروض الحكم؟

بعد أن عرفنا أنّ الحيثيّة والخصوصيّة الموجب ارتفاعها الشكّ في بقاء الحكم على نحوين :

الأوّل : الحيثيّة التعليليّة ، التي لا توجب التغيّر والتبدّل في الموضوع والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وبالتالي لا توجب التعدّد والتغيّر في المعروض فيجري الاستصحاب لتوفّر أركانه.

الثاني : الحيثيّة التقييديّة ، التي تكون مقوّمة للمعروض بحيث يكون المعروض الواجد لها مباينا للمعروض الفاقد لها ، أي أنّها توجب التغيّر والتبدّل في الموضوع والقضيّة المتيقّنة ، وبالتالي المعروض. فلا يجري الاستصحاب لاختلال ركنه الثالث.

فلا بدّ أن نعرف الضابط الذي على أساسه نميّز الحيثيّة التعليليّة عن الحيثيّة التقييديّة ، فما هو الملاك والميزان لذلك هل هو العقل أو العرف أو الشرع؟

فقد يقال بأنّ مرجع ذلك هو الدليل الشرعي ؛ لأنّ أخذ الحيثيّة في الحكم ونحو هذا الأخذ تحت سلطان الشارع ، فالدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك.

فإذا ورد بلسان ( الماء إذا تغيّر تنجّس ) فهمنا أنّ التغيّر اتّخذ حيثيّة تعليليّة ، وإذا ورد بلسان ( الماء المتغيّر متنجّس ) فهمنا أنّ التغيّر حيثيّة تقييديّة.

وعلى وزان ذلك ( قلّد العالم ) أو ( قلّده إن كان عالما ) ، وهكذا.

قد يقال : إنّ الضابط والميزان لتحديد كون الحيثيّة تعليليّة أو تقييديّة هو الشارع ؛ وذلك لأنّ أخذ الحيثيّة في الحكم من شئون الشارع وتحت سلطانه ؛ لأنّ الحكم الشرعي هو ذاك الاعتبار الشرعي المجعول في عالم الجعل واللحاظ على موضوعه بتمام الحيثيّات والخصوصيّات ، وكذلك بالنسبة لكيفيّة أخذ هذه الحيثيّة بنحو التعليل أو التقييد ، فإنّه أيضا راجع إلى الشارع.

وعلى هذا الأساس لا بدّ من النظر إلى الدليل الشرعي وملاحظة ما ورد في لسانه ، وهنا إذا كان لسان الدليل ـ الذي وردت فيه هذه الحيثيّة ـ بنحو الشرط أو جزء الموضوع ، فهذا يعني أنّ الحيثيّة الواردة فيه قد أخذت بنحو الحيثيّة التعليليّة ، كما إذا

٢٣٨

قيل : ( الماء إذا تغيّر تنجّس ) ، فهنا التغيّر كان شرطا لنجاسة الماء فهو العلّة والسبب لحدوث النجاسة ، ولذلك إذا زال التغيّر فالحكم السابق المتيقّن ليس مباينا للحكم اللاحق المشكوك ، بل يعتبر الثاني بقاء للأوّل فيجري الاستصحاب.

وأمّا إذا كان لسان الدليل بنحو الوصف أو القيد أو اللقب ، فهذا يعني أنّ الحيثيّة المأخوذة فيه حيثيّة تقييديّة ، كما إذا قيل : ( الماء المتغيّر متنجّس ) فهنا التغيّر أخذ قيدا ووصفا للماء ، وهذا يعني أنّ الماء المتّصف بهذا الوصف هو المحكوم بالنجاسة ، فإذا زال هذا الوصف ارتفع الحكم بالنجاسة عن الماء ، فإذا شكّ في نجاسته فهذا يعني الشكّ في حكم آخر غير الحكم السابق ؛ لأنّ الحكم السابق انتفى بانتفاء قيده ، فيكون الشكّ اللاحق شكّا في الحدوث لا في البقاء ، فلا يجري الاستصحاب.

وهذا نظير ما إذا ورد ( قلّد العالم ) ، وورد ( الشخص إن كان عالما فقلّده ).

فإنّ الأوّل يدلّ على أخذ حيثيّة العلم بما هي حيثيّة تقييديّة ؛ لأنّها وصف وقيد للإنسان ، فيكون التقليد مختصّا بالعالم ، فإذا زال العلم عنه وشكّ في جواز تقليده لم يجر الاستصحاب ؛ لأنّ جواز التقليد عن الفاقد ليس بقاء للحكم بجواز تقليد العالم ، بل هو فرد آخر منه ، بخلاف الثاني فإنّ العلم أخذ حيثيّة تعليليّة بمعنى أنّ العلّة والسبب لجواز تقليد هذا الشخص هو العلم ، فإذا زال عنه هذا الوصف وشكّ في بقاء تقليده جرى استصحابه ؛ لأنّ الحكم اللاحق على فرض ثبوته يعتبر بقاء للحكم السابق.

وهكذا نعرف أنّ المرجع في تحديد وتعيين كيفيّة أخذ الحيثيّة من كونها تعليليّة أو تقييديّة هو الشارع.

والصحيح : أنّ أخذ الحيثيّة في الحكم بيد الشارع وكذلك نحو أخذها في عالم الجعل ، إذ في عالم الجعل يستحضر المولى مفاهيم معيّنة كمفهوم الماء والتغيّر والنجاسة ، فبإمكانه أن يجعل التغيّر قيدا للماء ، وبإمكانه أن يجعله شرطا في ثبوت النجاسة تبعا لكيفيّة تنظيمه لهذه المفاهيم في عالم الجعل.

غير أنّ استصحاب الحكم في الشبهات الحكميّة لا يجري بلحاظ عالم الجعل ، بل بلحاظ عالم المجعول ، فينظر إلى الحكم بما هو صفة للأمر الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء كما تقدّم (١).

__________________

(١) تحت عنوان : الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني.

٢٣٩

والصحيح في الجواب أن يقال : إنّ الميزان والضابط ليس هو الدليل الشرعي ، والوجه في ذلك هو : أنّ ما ذكر من كون الحيثيّة بيد الشارع صحيح ، وكذلك نحو أخذها علّة تارة وقيدا أخرى ، إلا أنّ هذا يتمّ بلحاظ عالم الجعل والتشريع الذي هو عالم اللحاظ المولوي للحكم وموضوعه.

فالشارع يلحظ جميع الحيثيّات والخصوصيّات التي يرى دخالتها في ثبوت الحكم ، ولكن يلحظها بما هي مفاهيم وصور ذهنيّة ، كلّ صورة مغايرة ومباينة للأخرى ، كالماء والتغيّر والنجاسة.

فإنّ الصورة الذهنيّة للماء مغايرة للصورة الذهنيّة للتغيّر والنجاسة ، وبعد لحاظه لها بإمكانه أن يجعل هذه الحيثيّة تعليليّة بأن يأخذها شرطا وعلّة وسببا لثبوت الحكم بالنجاسة على الماء ، وبإمكانه أن يجعلها قيدا ووصفا للموضوع الذي يريد الحكم عليه بأنّه نجس ، وذلك تبعا لما يراه مناسبا في صياغة الحكم على موضوعه ، ولما يراه مناسبا في كيفيّة تنظيم هذه المفاهيم المتباينة فيما بينها.

غير أنّ هذا لا علاقة له بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، وذلك لما تقدّم من أنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة لا يجري بلحاظ عالم الجعل ؛ لأنّه لا معنى له إلا من ناحية الشكّ في النسخ والذي يعتبر حالة نادرة من جهة ، وحالة غير ابتلائيّة فعلا من ناحية أخرى.

وإنّما يجري الاستصحاب في الشبهات الحكميّة بلحاظ عالم المجعول والفعليّة ، أي يكون الشكّ في الحكم ناتجا ومسبّبا عن كون حيثيّة ما موجودة في موضوع الحكم ثمّ ارتفعت وزالت ، فيشكّ في بقاء الحكم نتيجة الشكّ في كون هذه الحيثيّة التي كانت موجودة ثمّ ارتفعت ، هل هي مؤثّرة في ارتفاع الحكم بقاء أو لا؟

وحينئذ لا بدّ من ملاحظة عالم المجعول لا عالم الجعل ، وفي عالم المجعول كما تقدّم يكون الحكم عارضا على الموضوع الموجود فعلا ، وهذا الموضوع له حدوث وله بقاء ؛ لأنّه تارة يكون واجدا لهذه الحيثيّة وأخرى يكون فاقدا لها ، والحكم المشكوك في حالة الفقدان للحيثيّة ليس مغايرا للحكم المتيقّن سابقا حالة وجود هذه الحيثيّة ، بل يكون على فرض ثبوته بقاء واستمرارا للحكم السابق.

٢٤٠